أيها المسلم الحبيب..
هل استمعت إلى حنين أناملك وأنينها؟ هل استمعت إلى شكواها إليك؟
تشتكي منك قسوة قلبك لحرمانها.
قد تعجب وتقول: وهل للأنامل إحساس؟!
قلنا لك: فلتستمع أيها الحبيب، فلتستمع إلى أنين الخشب، أما علمت بقصة ذلك الجذع وأنينه شوقا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟
فهذا عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- يقول: (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع فأتاه يمسح بيده عليه)(رواه البخاري).
وهذه القصة أيها الحبيب، يرويها لنا أيضا جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- فيقول: (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار-أو رجل-: يا رسول الله ألا نجعل لك منبرًا؟ قال: إن شئتم. فجعلوا له منبرًا. فلما كان يوم الجمع دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- فضمه إليه، يئن أنين الصبي الذي يُسكن) قال: (كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها)(رواه البخاري).
قد تقول أيها الحبيب: فما هي شكوى أناملي؟ وما هو الحرمان الذي لحق بها مِنِّي لتشتكي إلي من قسوة قلبي؟ وإلى ماذا تحن ولماذا تئن؟
قلنا لك: إن أناملك لتحن إلى أن تتصفح المصحف، كما كانت تفعل في أيام رمضان، عندما كان المصحف في صحبتك ولا يفارقك، وكانت أناملك تقلب لك الصفحات، وتستعرض لك الصور والآيات، وإنها الآن تئن وتشتكي إليك نفسك لحرمانها.
فلو تركنا لها أيها الحبيب الفرصة لكي تحدثك وتذكرك بالأيام السالفة وذكرياتها مع كتاب الله -تعالى- عندما كانت تستعرض لك السور والآيات. أعلمت ماذا تقول؟
قد يَرِدُ على خاطرك وتقول: أو َتتكلم هي؟!
قلنا ألم تسمع إلى قول ربك -تعالى-: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(النور:24)؟ أما قرأت قول ربك سبحانه: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(يس:65).
أوما سمعت من كلام نبيك -صلى الله عليه وسلم- عندما قال: (عليكن بالتهليل والتسبيح والتقديس، ولا تغفلن فتُنسين الرحمة، واعقدن بالأنامل فأنهن مسؤولات مستنطقات)(رواه أحمد والترمذي وأبو داود وحسنه الألباني).
فلو تكلمت الأنامل أتدري بماذا تذكرك؟
فإن أناملك لتقول لك أيها الحبيب: أتذكر يا صاحبي عندما كنت تقرأ في سورة سبأ، فاستوقفتني عند قول ربك: (وَلَوْ تَرَى إِذ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا َنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ . وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَْغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(سبا:31 - 33).
أتذكر عندما وقفت ملياً أمام ذلك المشهد، وانتقلت بفكرك وبصرك إلى الآخرة، وأنت ترى هذه المحاورة والملاومة بين هؤلاء الضعفاء الذين كانوا أتباعًـا لهؤلاء الكبراء والأغنياء، وكيف كانوا يتقاذفون الاتهامات فيما بينهم بعد هذا الود والصفاء في الدنيا.
وإِذْ بك ياصاحبي وبأناملك تنتقل عبر الآيات والصور إلى هذا المشهد المماثل الذي كنا قد مررنا عليه في سورة إبراهيم: (وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ)(إبراهيم:21).
وتتذكر هذه المحاجة التي تمت بين الضعفاء والكبراء بعد أن أسكنهم الله جميعا في النار: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ . وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ . قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ) (غافر:47-50).
فبغية هؤلاء الأتباع لو تحمل عنهم الكبراء والرؤساء حظاً من العذاب، بل بغيتهم أن يخفف الله عنهم يوما واحدا من هذا العذاب المهين.
وتذكرك أناملك أيها الحبيب، وتقول لك: أتذكر مطلب هؤلاء من مالك خازن النار؟ أو تذكر عندما استوقفتك سورة الزخرف على قول ربك: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثـُونَ . لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)(الزخرف:77-78).
وتقول لك أناملك: فهؤلاء أيها الحبيب، الذين قال الله عنهم في سورة الجاثية: (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ . وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون . وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ . ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)(الجاثية:32 - 35).
وتقول لك أناملك: أتذكر يا صاحبي عندما قلبت لك صفحات مصحفك، و توقفنا عند سورة فاطر، للنظر ما هي الأمنية التي يتمناها هؤلاء عندما يكبون على وجوههم ومناخرهم في النار. (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)(فاطر:37).
أو تذكر ما رُدَ به على هؤلاء وعلى مطلبهم؟ (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ)(فاطر:37).
وتقول لك أناملك: أوتذكر يا صاحبي عندما كنت أُقلب صفحات مصحفك وأنت تقرأ في سورة الكهف، حتى وقفت على حال القوم عند نشر هذه الدواوين التي سطرت من أعمال الإنسان؟! (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَ أحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف:49).
وتقول لك أناملك: أوتذكر يا صاحبي حال هؤلاء القوم، وهم يتلقفون هذه الكتب إذا نُشرت عليهم يوم القيامة، ويرى فرح وسرور من وفق أن يتناولها بيمينه، وحزن وكرب وكآبة من تلقفها بشماله؟!
أوتذكر هذا المشهد عندما وصلنا إلى سورة الحاقة حيث يقول الله -تعالى-: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ . إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيهْ . فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ . فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ . قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ . كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)(الحاقة:19-24).
وكيف كان شوقك أن تكون من تلك الطائفة، وكيف انفرجت أساريرك وأنت تطالع حال هذه الطائفة الفائزة الناجية؟! وكيف ألم بك الفزع والخوف عندما انتقلت بك إلى الصورة الأخرى المقابلة لهذه الصورة؟ (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ . وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ . يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ . مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ . هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ)(الحاقة:25 - 29).
وعندها ينادي على زبانية جهنم: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ . ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ . ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ)(الحاقة:30-32).
ثم ذكرت الآيات أسباب هذه العقوبة: (إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ . وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ . فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ . وَلاَ طَعَامٌ إِلا َّمِنْ غِسْلِينٍ . لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطئُونَ)(الحاقة:33- 37).