العلم والنظرة الى العالم
كان الناس منذ فجر المدنية يحاولون معرفة كل ما يجرى حولهم ، فحب المعرفة صفة لصيقة بالإنسان وهى التى تحثنا على البحث المتواصل عن حقائق الكون ، وفى سعى الإنسان لمعرفة كل شىء تشكلت قابلية العقل البشرى للابتكارات العلمية ، وأصبحت ظاهرة العلم هى أخطر ظواهر الحضارة الإنسانية وأشدها ايجابية وأكثرها تمثيلا لحضور الإنسان كوجود عاقل ، من هنا فأن تاريخ العلم هو التاريخ الحقيقى للإنسان وصلب قصة الحضارة فى تطورها المستمر ، وأحد المهام الأساسية للعلم أن يجعل الكون الذى نحيا فيه مفهوما لنا ، ويمكننا من تفسير الظواهر وإدراك قوانين الطبيعة والنظم الاجتماعية ، ولقد شهد العلم خلال مر العصور تطورات وتغيرات فى النظريات والقوانين وأخذ يتسع وتتعدد إبعاده ، وكان فى كل مرحلة يساهم فى تغيير نظرتنا للعالم من حولنا .
وفى محاضرة ألقاها د . السيد نفادى . أستاذ فلسفة العلوم أمام أعضاء نادى هيئة التدريس بجامعة القاهرة فرع الخرطوم بالسودان ، قدم أطروحة أثارت الكثير من الجدل حول " العلم والنظرة الى العالم " وفى تعليقة على ما أثارته من جدل يقول د . نفادى : لم يدهشنى الجدل الحاد لأننى كنت أتوقعه ، ولكن الذى ادهشنى حقا أن معظم الحاضرين ـ وهم رجال علم من تخصصات مختلفة ـ يجهلون الكثير عن الفلسفة عموما ، وفلسفة العلوم على وجه الخصوص ، وحزنت لأننا فى جامعاتنا لا نهتم بهذا الفرع من التخصص الذى يحتل مكانة مرموقة فى معظم جامعات العالم ، لما له من أهمية فائقة فى تكوين عالم متمكن ومفكر متعمق .
أما الجدل الذى أعقب المحاضرة فقد دار فى معظمه حول إثبات أن العلم كله موجود فى القرآن الكريم ، وما علينا إلا " تأويل " النصوص حتى تتكشف لنا كل الحقائق العلمية فى كل المجالات ، آذ أن كل ما توصل إليه العلماء فى الماضى والحاضر وفى المستقبل مذكور بحذافيره فى القرآن الكريم . فما هى هذه الأطروحة التى أثارت كل هذا الجدل ؟ ,
يرى د . نفادى أن هناك ثلاثة أطوار أساسية فى تاريخ العلم ، كل تطور أدى الى تغيير نظرتنا الى الكون وشكل نظرة جديدة للعالم والطبيعة والإنسان وهى : العلم الأرسطى ، والعلم النيوتونى ، والعلم الآنيشتينى ، وأن كل علم من هذه العلوم إنما كان يمثل قطيعة ابستمولوجية ـ بالتعبير الباشلارى ـ للعلم الذى قبله .
قام العلم الأرسطى على أساس أن الأرض هى مركز الكون وأنها ثابتة ، وأن الحركة الدائرية هى الكمال الاقصى ، وبذلك فأن الشمس والقمر والكواكب والنجوم تتحرك حول الأرض فى أفلاك دائرية منتظمة ، وقد طور بطليموس فى القرن الثانى(ق.م) فكرة أرسطو لتصبح نموذجا كاملا ، فالأرض تقف فى المركز تحيط بها ثمانى كرات تحمل القمر والشمس والنجوم والكواكب الخمسة المعروفة وقتها ، هذا وقد أنتقل العلم الأرسطى ومنطقه بالكامل الى العالم المسيحى ، وذلك بعد أن تبنته الكنيسة وأجرت عليه التعديلات اللازمة لتجعله متوافقا مع تعاليم الدين المسيحى فى القرن الحادى عشر، واستمرت السيادة الفكرية للكنيسة المعززة بآراء أرسطو الى القرن الرابع عشر .
وقد تغلغل النظام الأرسطى فى العالم المسيحى حتى أن النظام الكونى كما صوره " دانتى " و " توما الأكوينى " لا يخرج عنه كثيرا ، وهكذا كان الكون محددا ومنسجما ومتسق الترتيب فى جميع أجزائه ، كما كان هناك عالم ثابت من العلاقات الاجتماعية والمصالح التى تكتسب شرعيتها من الله ، وهو عالم يعكس النظرة السائدة التى تنظر الى العالم الطبيعى على أنه أيضا عالم ثابت الأركان ، وأن البشر أنفسهم فوق هذه الأرض هم الجزء المركزى من خليقة الله ، فالطبيعة والبشر موجودات لخدمة الله وخدمة ممثليه على الأرض أى السادة من الحكام والرهبان .
انقضى عشرون قرنا على وجه التقريب ظل فيها العلم الأرسطى سائدا حتى بزغ فجر العلم الحديث الذى أحدث ثورات بعيدة الأثر عدلت كل المفاهيم العلمية تقريبا وغيرت من نظرتنا الى العالم تغييرا جذريا . ولقد كان أولى هذه الثورات الثورة الكوبرنيقية التى كانت فى أول الأمر نقضا لنموذج بطليموس ، ففى عام 1514 م طرح كوبرنيق نموذجا أبسط من النموذج الأرسطى البطلمى ، وكانت فكرته الأساسية أن الشمس ثابتة فى المركز بينما الأرض والكواكب تتحرك فى أفلاك حولها ، ثم اتت الضربة المميتة لنموذج أرسطو / بطليموس فى عام 1609 م على يد جاليليوجاليلى الذى أخذ يرصد السماء بتلسكوبه الجديد ليجد أن كوكب المشترى مصحوب بتوابع صغيرة أو أقمار تدور حوله ، وبذلك اثبت أن هناك العديد من الأشياء لا تدور مباشرة حول الأرض كما كان يعتقد أرسطو وبطليموس ، كما قدم جاليليو الدليل التجريبى القاطع على صحة نظرية كوبرنيق .
ورغم أن د. نفادى قد أشار الى دور الحركة الإنسانية ، والإصلاح الدينى فى تغيير المفاهيم والأفكار فى ذلك العصر، وأن العديد من أساتذة فلسفة العلوم يركزون على علوم الفلك والفيزياء فى تغيير نظرتنا الى الكون مغفلين ما قامت به الكشوف الجغرافية من دور لا يقل أهمية فى ذلك ، فقبل الثورة الكوبرنيقية بقرن تقريبا استطاع " باولو توسكانيللى 1397ـ1482 " أن يغير فكرتنا عن الأرض ، فقد كان هناك مفهوم خاطىء ظل يسيطر على الفكر العلمى فيما يختص باتساع موطن البشر ، أذ كان من المفترض أن الأرض القابلة للسكنى لا تغطى سوى جزء من الكرة الأرضية ، وكان ينظر الى بقيتها باعتباره مجالا خارجيا لا يمكن بلوغه ، فبعد الهند شرقا كانت الأرض القابلة للسكنى تتلاشى فى ظلام ، ولم يكن يعرف من أفريقيا سوى الشريط الضيق الذى يحازى البحر المتوسط ، وابعد من ذلك الى الجنوب كانت أفريقيا تضيع فى رمال الصحراء . كان هذا هو العلم الذى عاش فيه العقل الأوروبى حتى بداية عصر النهضة ، وحدة مركبة صلبة من الأرض تتكون من القارات الثلاث المعروفة حتى ذلك الوقت ، وفيما وراء ذلك تتلاشى الأرض فى الظلام المجهول الذى يطوقه البحر المحيط من كل جانب . الى أن جاء " توسكانيللى" فى عام 1474 م وتمكن من صياغة أول مفهوم حديث لموطننا الأرض ، وأخذ يناقش فرضية " استرابون " بان العالم القابل للسكنى يشكل دائرة كاملة ، وأن الكرة الأرضية برمتها قابلة للسكن ، وأن مياه المحيط يمكن الإبحار فيها ، وبذلك أمكن النظر الى الكرة الأرضية باعتبارها كيانا واحد يمكن بلوغ كل أجزائه ، ويشكل المحيط رابطة وممرا مائيا بين طرفى الأرض ، وكان هذا إيذانا بتغيير كبير فتح المجال الى الكشوف الجغرافية التى شملت العالم وعدلت من الأفكار ذات الطابع الأسطورى عن الأرض ، وقد ساهم ذلك إضافة الى التطورات العلمية اللاحقة فى الفيزياء والفلك فى تغيير النظرة الى العالم الحديث .